ولعل من الملاحظات التي أثارت الانتباه أن كل الممثلين أدوا أدوارهم على الركح بأقدام حافية وأقنعة ساهمة في تغيير ملامح الشخصية وساعدت الملمح البصري على التفاعل مع الملمح الحركي في إطار علاقة سببية جمعتهما في بوثقة التصور الإخراجي كمكون عام حاول أن يتأسس على جدلية الحركة والكلمة ، أي على علاقة الحركة بالصوت وهي العلاقة التي لا تفضي إلى القبض على الدلالة بشكل مباشر، بقدر ما تفتح إمكانات هامة لعملية التأويل ، تلك التي لا تقف عند حدود معينة .
أكواريل ورهان البوح والمكاشفة :
وقدمت جمعية " أبينوم" مسرحية " أكواريل" من إعداد محمد زيطان وإخراج حميد البوكيلي، وهذه المسرحية عبارة عن لوحات ومشاهد متنوعة ، تدور الحكاية حول ثلاث شخصيات ضائعة كل منهما يعاني مشاكل في حياته الخاصة ، هي شخوص زئبقية ومنفلتة لا يتم القبض عليها بسهولة وإن لم تنفلت هذه الشخوص من قبضة الركح الذي أجاد الممثلون التعامل معه بأشكال هندسية مدروسة بعناية من قبل المخرج ، ومثلما هو الحال بالنسبة للعرض السابق ، فإن عرض " اكواريل" كان الزمن فيه ممتدا بحيث إن محاولة تكسير الحكاية كانت بمثابة محاولة لتكسير الشخصية أيضا في أبعادها المختلفة.
لقد استخدم المؤلف تقنية ازدواجية التعبير : اللغة الدارجة واللغة العربية الفصحى عن وعي فني مما ساعد على تكسير الإيهام من حين لأخر، والذي أثار انتباه المتتبعين للعرض عنصر السنوغرافيا المحكمة الموظفة ومن خلالها أمكن تأويل الدلالات الناجمة عن المشاهد المختلفة وهي التي أسهمت في خلق حيوية درامية في صلب المشهد المرئي، حيث تم التلاعب بالكراسي وجعلها على أشكال مختلفة من بينها الميزان ، غير أن الذي ظل مبهما طوال مدة العرض هو علاقة لون المظلة الأبيض بباقي الألوان الموظفة في السنوغرافيا مما جعل التساؤل التالي مشروعا : هل استطاع المتلقي تفكيك الدلالات الناجمة عن العرض للقبض على المدلول ؟
الحقيقة أن الإجابة عن هذا السؤال ظلت معلقة بالنظر إلى أن تأويل الدال ليس كالقبض عليه والإمساك به باعتبار رمزية اللغة المنطوقة وشعريتها وغياب السرد الخطي القائم على البداية والوسط والنهاية والزمن المحدود والملامح الواضحة للشخصيات ، إن أكواريل تحكي عن ثلاث شخصيات منفلتة من سلطة الزمان والمكان ، هاجسها البوح والتعبير والمكاشفة ، بمعنى تعرية الذات في علاقتها بالمحيط الاجتماعي من خلال استحضار ثنائية الرجل والمرأة وعلاقتهما بالواقع المعيش المتأزم على عدة مستويات ومن ثم كان الاشتغال الركحي يمتح من الواقع ذاته لكونه مرجعية ثقافية تستمد من الحياة مشاهد دالة وتجنح في الخيال حالمة ، راقصة ومتسائلة.
وقفة الرجل المسكون وثنائية الإبداع والموت :
من ميزة المسرحيين المغاربة ـ أنهم لا ينسون رجالا ضحوا بالغالي والنفيس من أجل المسرح حبا فيه وتقديرا لدوره الاجتماعي التنويري والترفيهي ، وكان عرض مسرحية "وقفة الرجل المسكون" الذي قدمته فرقة "فضاءات مسرحية" البيضاوية ، عربون وفاء لروح المخرج المسرحي الراحل " حوري حسين " ، وكان هذا المخرج قد قضى منتحرا عندما شنق نفسه قبل سنوات في شقته الصغيرة بمدينة الدار البيضاء ، وترك الحدث أثرا عميقا في نفوس تلامذته وأصدقائه ، وكان منهم الأستاذ " سعد الله عبد المجيد" الذي عبر عن وفائه لذكرى الراحل بكتابة مسرحية " وقفة الرجل المسكون " وهي تحكي جزءا من سيرة الراحل " حوري حسين" ومعاناته اليومية وشروط حياته القاسية التي اتسمت بالفقر والاغتراب ، وهو الرجل الذي حمل هم المسرح وقضاياه ومشاكله قبل أن تنتهي معاناته الوجودية إلى الانتحار،ذلك الرجل الذي كان الفقر بالنسبة إليه اختيارا .
هذا النص حوله الأستاذ "رشيد بوفارسي" إلى مسرحية شاركته البطولة فيها الممثلة الواعدة
" إيمان أسد" التي تقمصت عدة شخصيات عبر زمن العرض ، وكانت هذه المسرحية سفرا في زمن رجل أحدب ومسكون ، ينعزل عما يحيط به ثم يندمج ، يذهب ويأتي ، يتصرف مثل الحرباء ويحتفظ بصوت داخلي يسكنه الاحتجاج ، وبذلك حاول المخرج أن يعيد الراحل من موته إلى الحياة بإدماج كثير من مقاطع ، كان قد كتبها الكاتب الراحل، في حوار المسرحية ضمن عملية كولاج COLAGE متقنة ، وبخصوص مكونات العرض الأخرى وتحديدا السينوغرافيا ، فقد شكلت الجثث الثلاث الملفوفة بأكفان بيضاء والموضوعة فوق الصناديق ملمحا بصريا أنتج دلالة مباشرة أحالت على موضوع THEME المسرحية ، أي الموت في انسجام مع تساؤل البطل : الموت ، الموت ، ومتى أدفن ؟ وكان زمن العرض ممتدا نسبيا سمح للممثلة الواعدة " أيمــان أسـد" بتقمص عدة شخصيات عبر مشاهد العرض المختلفة ، فهي حارس الأموات كما كانت زوجة المبدع القروية ، التقليدية التي لا تتفهم سر أزمته الوجودية الناجمة عن رفضه لواقعه وتمرده عليه وهي لا تقبل انغماسه في تعاطي الخمور والإدمان عليها هروبا من أزمته ، هي أصوات نابعة من عمق الركح، كانت نشيدا خارج الخشبة وباتت أصواتا ضائعة شيطانية بينما يخرج صوت مرزوق إلى الوجود ، الشخصية المحور في المسرحية ، يبرز مثل قنديل ينير العالم ويحرق حبال المشانق رفضا للموت وإقبالا عليه في ذات الوقت، وفي آخر المطاف يقف مرزوق سبع وقفات كانت ضرورية للتأمل وإعادة النظر في الحسابات، وما أضفى بعدا جماليا أخر على العرض هو لجوء المخرج إلى ملء مساحة الركح بجرائد قديمة وضعت في شكل مخروطي كإشارة إلى الاحتقان المعرفي الذي عاشته شخصية مرزوق ، هذا الضائع الذي لم يعد يلقي اهتماما إلى المعرفة والخبر المتجسد في إهمال القراءة وكأنها مؤشر على أزمة ثقة عاشها المبدع الراحل في علاقته بكل ما يحيط به في تجسيده الأسمى المتمثل في صناعة الخبر والمعرفة ، هذه الأزمة كانت في حقيقتها موتا أول للروح قبل أن تبارح الجسد الذي يحضنها .
جيفة في الدلالة …سعد الله ونوس مرة أخرى :
لا يزال الراحل " سعد الله ونوس " يمارس سحره على المخرجين المغاربة خصوصا على جيل الشباب من خريجي المعهد العالي للمسرح والتنشيط الثقافي ، ومسرحية " جيفة في الدلالة" اقتبسها للمسرح والتنشيط حكيم القبابي عن مسرحية: جثة على الرصيف للكاتـب الراحل سعد الله ونوس، حيث نجح في إعادة كتابتها لتلائم الواقع المغربي من حيث اللغة والشخوص، وتحكي المسرحية قصة متشردين يقضيان ليلة باردة عند سور إحدى الفيلات الفاخرة ن يموت أحدهما جوعا وبردا بينما يتشبث الثاني بالحياة وهو في حالة سكر شديدة، يأمل في غد تتحقق فيه أحلامه الغريبة، ويحدث أن يكتشف موت صديقه في غمرة انغماسه في الحلم وتأتي نوبة حراسة شرطي للمكان حيث تتزامن مع تلك الليلة الباردة ووجود المتشردين عندما حاول إبعادهما عن فيلا الحاج ، الشخصية النافذة في المجتمع ، دون أن يفلح في ذلك ويكتشف الحاج الثري وجود الجثة ويقرر شراءها فتدخل فالجثة عالم المزاد العلني رغما عن أنفها..
كان زمن المسرحية محدودا بليلة واحدة، حيث إن الحكي الخطي اقتضى ذلك كما اقتضى حضور الشخصيات بأبعادها الكلاسيكية وتناميها الدرامي تبعا لما تتعرض لهمن أحداث مختلفة تجعل ردود أفعالها محكومة بتطور المواقف والسياقات مما أفقد العرض بعض حيويته الدرامية خصوصا فيما يتعلق بالسنوغرافيا –التي بذل مجهودا كبير في إنجازها –إذ كان من الممكن إغاؤها بعناصر غير ثابتة تنسجم مع تنامي الأحداث وسياقاتها في الواقع وعلى الركح.
ملاحظات لابد منها :
إن تكسير الزمن في أغلب العروض التي قدمت طيلة مدة التظاهرة وهلامية الشخصيات كانت من الملامح الرئيسة للتجريب كما مارسه المخرجون والممثلون ، وتنبغي الإشارة إلى أن تفجير الحدث بمفهومه الكلاسيكي وتكسيره ثم تفجير اللغة المنطوقة عوامل ساهمت في إبراز طاقات تجريبية تعني في مدلولها المباشر الإتيان بكل ما هو جديد من المنظور الإبداعي، أي كل ما يتجاوز أشكال الاشتغال القديمة التي طالما اعتمدت في الإنجاز الرحكي على بنية سردية خطية وصرامة في رسم ملامح الشخصيات السلوكية والفيزيولوجية وما يقتضيه ذلك من صرامة في أداء الممثلين .
بيد أن بعض السلبيات ألقت بظلالها على العروض المقدمة ، منها عدم انسجام الإيقاع من البداية إلى النهاية بحيث كان الإيقاع يتباطأ أو يتسارع بدون انسجام أو ضرورة درامية ، ومن الملاحظات المسجلة أيضا : أن تكسير الإيهام في بعض العروض لم تكن له دواع فنية ، ذلك أن تكسير الإيهام لا يقع إلا بعد تصاعد شدة الحدث الدرامي داخل العرض بحيث يبدو وكأنه بلغ إلى منتهاه ، بحصول الإيهام لدى المتلقي ، وهو الشيء الذي لم يتحقق إلا نادرا ، كما أن تكسير الإيهام وظف بشكل غير مضبوط في بعض الأحيان ، أي على غير الشكل الذي يجب أن يكون عليه في الحقيقة .
فهل أجابت العروض عن أفق انتظار المتلقي وهو يبحث عن الإيهام ؟ الواقع أن السينوغرافيا، وهي التي كثيرا ما زاحمت الممثل وكثيرا ما زاحمها هو الآخر كان توظيفها موفقا في مجمل العروض وحملت للمتفرج دلالتها ، بيد أن هنات صغيرة كان لابد أن تبرز إلى الوجود ، فمثلا كان لون المظلمة الأبيض غير منسجم مع ألوان الكراسي الحمراء في عرض –أكواريل– وبات من الصعب تأويل المشاهد التي استعملت فيها المظلة – على قلتها – والخروج من التأويل بنتيجة مقنعة وواضحة ، وما دام عرض-أبجدية الاحتراق يدور حول الشعر، فإن اللافتة المعلقة في عمق الخشبة والتي رسمت فيها بخط عربي أنيق حروف : ش-ع –ر-ن-ق لم تنتج دلالة واضحة ، لأن تجميع الحروف لم يفض إلى كلمة ذات معنى واضح يسهل القبض عليه ، فربما كان الأمر يتعلق بنوع جديد من التجريب يتيح للمشاهد أن يفكك الرموز ويعمل عقله فيها .
وعلى الجملة ، يمكن أن نخرج من العروض المقدمة بالملاحظات التالية :
-الخروج عن بعض الطابوهات المتعارف عليها في المجتمع .
-حضور الموت كسؤال وجودي في أغلب العروض ومن ثم استحضار الموتى من عالم الغيب.
-انفلات الشخصيات من قبضة الزمان والمكان .
-امتداد الزمان ولا محدوديته.
-مزاحمة السينوغرافيا للممثل .
-حضور الحركة والرقص.
في ندوة المسرح التجريبي : مفهوم التجريب بين الخاص والعام .
وكانت ندوة المسرح التجريبي مناسبة تدارس فيها المشاركون قضايا ومفاهيم مرتبطة بالتجريب في العمل المسرحي وآفاقه وواقعه الراهن ، وكان المخرج جمال الدين العبراق أول من أخذ الكلمة عندما أبرز أن مفهوم التجريب يختلف من شخص إلى آخر، مما يعني عدم وجود رؤى محددة تتفق حول مفهوم التجريب وممارسته في المسرح، إنه مفهوم يتطور بتغير الزمان والمكان، ولم يفته أن يشير إلى أن المغرب عرف التجريب منذ ما يزيد عن أربعة عقود ، إذ حمل الهواة مشعله منذ بداية الستينيات من العقد الماضي ومن خلاله مرورا أفكارهم الإيديولوجية انطلاقا من خشبة المسرح ، في وقت طغى الحوار المباشر الأقرب إلى التقرير منه إلى الخطاب الفني الإيحائي على الخطاب المسرحي ، ولم ينف ذلك وجود إشراقات لا يزال تاريخ المسرح المغربي يسجلها بفخر ، هكذا يتضح أن التجريب بالمغرب لا ينطلق حاليا من الصفر ، فالتجريبيون في المسرح يلجون الآن فضاءات أرحب وأشمل وينبغي في هذا الإطار أن يكون التجريب مسبوقا بالبحث الجاد في المكونات الفنية والارتهان إلى أدوات اشتغال جديدة بحيث يجب التساؤل بداية : على أي مستوى يجب ممارسة التجريب عند الاشتغال الركحي؟
وأضاف القيدوم الأستاذ " نجيب طلال " بأن المفهوم الطبي للتجريب اقتحم الإبداع انطلاقا من تصورات عالمية عامة، وكان المجربون الأوائل في المسرح قد بحثوا لدى ممارستهم عن مفهوم للتجريب يستطيعون به تقزيم المسرح التجاري المحض لأن الإبداع في عمقه بعد إنساني وكوني وكان لابد من تحقيق إنسانية الإبداع ، ويضيف الناقد بأن التجريب عام وخاص، فالأول انطلق منذ ظهور المسرح في بلاد الإغريق على عهد أسخيلــوس عندما انفصل المسرح عن الدين الوثني وازدهر في مدينة طيبة وأثينا الديموقراطيتين، واستطاع أن يقلب مفهوم الصراع الذي كان دائرا بين الآلهة في السماء وانتقل إلى الأرض ، حيث صار قائما بين الناس هذه المرة ، وفي ذات الوقت تطور العرض المسرحي من مشاركة ممثل واحد إلى مشاركة ممثلين اثنين.
أما التجريب الخاص فهو مجموعة من التفاعلات أحدثها فعل التجريب في تصوراته وآرائه تتنافى مع البعد التجاري للفن المسرحي حتى يتحقق البعد الإنساني فيه فينتفي الاستلاب الذي يتحدد غالبا بالإيهام ، وقد غرق فيه المتلقى أثناء مشاهدته للعروض المسرحية ، وعلى الرغم من أن الهواة استقوا مفاهيمهم التجريبية من برخـت وآرتو وكروتفسكي وما يرلهود ، وعلى الرغم من الاستيلاب والتغريب التي عرفتها عملية الاستقاء هاته ، فإنهم مع ذلك استطاعوا أن يحققوا عمقا إنسانيا في معظم عروضهم في غياب مرجعية معرفية وإبداعية محلية .
وتناول الأستاذ أحمد الدافري كاتب الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي بالمغرب الكلمة مجيبا عن سؤال التجريب في العولمة البصرية التي اقتحمت كل الميادين ، وطالب الأستاذ المتدخل بإعادة النظر في التراكمات السابقة أثناء الحديث عن المسرح بمعناه العام، فالسياق التاريخي الذي نعيشه مغربا ومشرقا، – منذ عهد مارون النقاش الذي شاهد عدة مسرحيات في باريس عند زيارته لها واعتبر العروض المسرحية متعة ومن هذا المنطلق قرر إدخال هذه المتعة إلى بلاد الشام ثم إلى العالم العربي – فرض عينا مجموعة من التطورات عرفتها مختلف الميادين الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ينبغي التعامل معها بشكل من الأشكال ، ويعرف عصرنا ثورة عارمة في مجال الصورة والاتصال والتقانة المرتبطة بهما، هذه الثورة أتاحت للتجريب في المسرح آفاقا لم تكن متاحة له من قبل، إذ يمكن التعامل مع الصورة والعوالم الافتراضية في العروض والاستفادة من إمكانتها الهائلة لتحقيق فرجة هادفة مثل تقنية ال Vidio-audio .
مسك الختام : حفل الاختتام :
كان حفل الاختتام متميزا بحق ، فقد أطفأ المشاركون شمعة بمناسبة مرور سنة واحدة على تأسيس الشبكة الوطنية للمسرح التجريبي بالمغرب متواعدين على اللقاء في السنة المقبلة بنفس المدينة مدينة أصيلة ، التي يطلق عليها المغاربة مدينة الفنون ، وذلك في إطار فعاليات الإصدار الثاني، لخماسية المسرح التجريبي ، وأصدر المشاركون بيانا تضامنيا مع الممثل حمودة أبو الفضل في محنته الصحية التي آلمت به مؤخرا متمنين له الشفاء العاجل، كما ناشد المنظمون الجهات المسؤولة والغيورين على المشهد المسرحي إحاطة هذه التظاهرة بالرعاية اللازمة ودعمها ماديا ومعنويا.
صخر المهيف
من أصيلة -المغرب